الثقافات الفرعية
من معهد بيرمنغهام إلى الوسائط المتعددة
المحاضرة رقم:1
الثقافة أسلوب حياة :
ظل
تعريف الثقافة محل اهتمام علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا خاصة بعدما ظهر تعريف
تايلور Tylor-EB للثقافة، وتبين من خلال هذا الاهتمام، أنه لا
يمكن فهم الثقافة بعيدا عن المجتمع، باعتبارها نشاط لا يوجد إلا في المجتمع، وحين
يتكلم هؤلاء عن ثقافة شعب من الشعوب فإنهم يقصدون على العموم طرائق المعيشة وأنماط
الحياة وقواعد العرف والتقاليد والفنون والتكنولوجيا السائدة في ذلك المجتمع،
والتي اكتسبها أعضاؤه ويلتزمون بها في سلوكاتهم وفي حياتهم ففي كتاب إدوارد تايلور
الموسوم بـ "الثقافة البدائية" «Primitive Culture»، ورد تعريفه الذي يعد الأكثر انتشارا في
الأدبيات العلمية إذ يقول أنها "ذلك الكل المركب المعقد الذي يشمل المعلومات
والمعتقدات والفن والأخلاق والعرف والتقاليد والعادات وجميع القدرات الأخرى التي
يستطيع الإنسان أن يكتسبها بوصفه عضوا في المجتمع".
ونظراً لاتساع مفهوم الثقافة وانفتاحه
على كل شيء تقريباً، فإن حقل الدراسات الثقافية يغدو مفتوحاً متسعاً رحباً، ويؤدي وظيفته
من خلال الاستعارة من مختلف فروع المعرفة مثل: علم الاجتماع، الأنثربولوجيا،
علم النفس، اللغويات واللسانيات، النقد الأدبي، نظرية الفن، الفلسفة، العلوم
السياسية، علوم الاتصال وغيرها… ذلك فإن الدراسات
الثقافية ليست نظاماً،
وإنما هي مصطلح تجميعي لمحاولات عقلية مستمرة ومختلفة تنصب على مسائل عديدة وتتألف
من أوضاع سياسية وأطر نظرية مختلفة ومتعددة.
فالثقافة جزء من معرفة ترسخت في الشعور المشترك بين الناس أو في باطن المجتمع، وتتسم بكل تأكيد بطابع عام، لكنها إن كانت محدودة سوف تصبح خاصة أو فرعية، وهنا يجدر بنا التعريج على الثقافات الخاصة أو الفرعية في باطن الثقافة العامة والشمولية:
نتيجة لتعدد الثقافات
واختلافها والتي قدر ميردوك عددها بأكثر من ثلاثة آلاف ثقافة، وكل منها يتميز
بسمات خاصة، فقد تعددت بدورها المفاهيم لكل ثقافة من الثقافات الفرعية أو الجزئية،
حيث أورد ريدفيلد العديد من المفاهيم مثل: الثقافة المتدرجة، الثقافة الرفيعة،
الثقافة الدنيا، الثقافة الشعبية، الثقافة الكلاسيكية، ويمكن إضافة إلى ذلك
مفاهيم شائعة، كالثقافة الهامشية، وثقافة الفقر عند أسكار لويس، ورغم تشابه
طرائق السلوك وقواعد العرف والتقاليد الاجتماعية في المجتمع الكبير إلا أنه توجد
اختلافات بنائية في المجتمعات المحلية التي تشكل هذا المجتمع، ونظرا لما للثقافة
من تأثير في سلوك الأفراد وطبعهم بطابع معين بالذات، مما يؤدي إلى اختلاف ليس
بالنسبة لثقافة لأخرى ولكن في الثقافة الواحدة، خاصة إذا اختلفت الظروف التي
يعيشون فيها، أي عندما تختلف عناصر الثقافة التي تحيط بهم.
فالثقافة
الفرعية هي كحل جمعي أو حل متجددة للمشكلات الناجمة عن طموحات الأفراد المحيطة أو
لوضعهم المكتسب في المجتمع الكبير، وهكذا تكون الثقافات الفرعية كيانات متميزة عن
الثقافة الأكبر الأم، ولكنها تستعير منها رموزها وقيمها ومعتقداتها وكثيرا ما
تعرضها للتشويه أو المبالغة أو تقلبها رأسا على عقب، ويستخدم مفهوم الثقافة
الفرعية نطاق واسع في ميدان دراسة علم الاجتماع الانحراف كما يشيع بشكل خاص في
دراسة الشباب، وغالبا ما يشكل الأفراد فيما بينهم جماعات مختلفة، ولكل جماعة من
هذه الجماعات قيمها ومعاييرها الخاصة التي يلتزم بها كل عضو من أعضاء الجماعة،
وهذه المعايير تشكل فيما بينها ما يطلق عليه بالثقافة الفرعية، ومن ثم فإن طريقة
الحياة المميزة لجماعة ما سواء كانت هذه الجماعة منحرفة أو جماعة اجتماعية متمثلة،
يطلق عليها مصطلح ثقافة فرعية حيث تختلف في مضمونها اختلافا جوهريا عن الثقافة
العامة في المجتمع، وعليه يمكن إعطاء تعريف شامل للثقافة الفرعية:
الثقافة
الفرعية هي أسلوب الحياة وطريقة العيش والتفكير لأقلية قومية أو عرقية أو دينية
تعيش وسط مجتمع كبير، وقد تتعلق بطبقة أو شريحة أو فئة اجتماعية تختلف بصفتها
الاجتماعية والاقتصادية والثقافية عن المجتمع الكبير.
وظائف الثقافة الفرعية:
أما عن وظائف الثقافة الفرعية فإنه
يمكن تلخيص ذلك في التالية:
- يوجد في كل مجتمع معقد جماعات
فرعية مختلفة وثقافات فرعية، تناضل من أجل شرعية سلوك أفرادها وقيمهم وأسلوب
حياتهم، وذلك في مواجهة الثقافة السائدة للطبقة المسيطرة.
- تعطي حلولا على مستوى خيالي أو
سحري لبعض المشكلات البنائية، التي تنجم عن التناقضات الداخلية للبناء الاجتماعي
والاقتصادي.
- تقدم الثقافة الفرعية نمطا ثقافيا
يسمح باختيار عناصر ثقافية دون أخرى، مثل: الأسلوب والقيم والإيديولوجيات، كما
تمكن من استخدام هذه العناصر المختارة لتطوير أو اكتساب هوية أخرى خارج الهوية
الموروثة التي تحددت في إطار الأسرة و المدرسة أو مجال العمل.
- من خلال العناصر التعبيرية للثقافة
الفرعية، تقدم طريقة للحياة خلال أوقات الفراغ التي اقتطعت من عالم العمل الذي
يتميز بطابعه النفعي.
- تجد الثقافة الفرعية حلولا
للتناقضات البنائية، ويحدث هنا بصفة خاصة بين الذكور من الشباب الأمر الذي جعل
الكثافة الفرعية تتسم بطابع الذكورة.
أشكال الثقافات الفرعية:
تتخذ الثقافة الفرعية عدة أشكال يصطلح عليها بمكونات الثقافة الفرعية
وتختلف هذه المكونات بحسب المجتمع المدروس فلكل مجتمع خصوصياته الثقافية التي
تميزه عن بقية المجتمعات، سنحاول عرض أهم أشكال الثقافة الفرعية أو على الأقل
الأشكال المعتمدة في الأدبيات العلمية.
الفلكلور:
انطلق الفلكلور كشكل من أشكال
الثقافة الفرعية في بريطانيا ليقصد به الموروث الثقافي القائم أساسا على الاتصال
الشفهي، تحديدا من جون تومز John Toms حيث استعمل المفهوم للدلالة على الموروث الثقافي
البريطاني ويقصد بالموروث الثقافي: ممارسات الشعب وتمثلاته لتاريخه وممارساته
اليومية وتأويلاته لمسيرته الحضارية ونظم الأخلاق الخاصة به.
ومع التطور المفاهيمي للفلكلور، أصبح
يشمل العديد من التعبيرات الشعبية حيث نجده في الموسيقى والرسم والعادات والتقاليد
وغيرهم.
ومن
أجل توضيح مجالات الفلكلور، ارتأينا أن نعرض أهمها:
العادات والتقاليد
المعتقدات والطقوس والشعائر
الرقص والموسيقى
الرسم والشعر
الأمثال والحكم
الحكايات الشعبية المنقولة والمتداولة بين الأجيال
الأسطورة:
انطلقت الخرافة أو الأسطورة من الحضارة الإغريقية، خاصة مع الميثولوجيا
الاغريقية وتختلف طبيعة الأسطورة حسب الخصوصية الثقافية للمجتمع كما أنها تنتشر
بشكل كبير في المجتمعات التي تعتمد المشافهة، كما تعرف على أنها "قصة تقليدية
حول الكائنات ما فوق الطبيعة، أو أعمال ما فوق الطبيعة، لكائنات حية أو غير حية أو
أدوات جامدة على الأخص بين الشعوب البدائية، تعنى بفلسفة الخليقة والطبيعة، معروضة
في شكل قصص تكون فيه فعاليات الكون قد صورت، كتصرف كائنات شخصية كما جسمت قوى
الطبيعة وعناصرها عادة، كآلهة وعفاريت".
الطقس:
إذا كانت الأسطورة ترتكز بشكل أساسي على المشافهة (الاتصال اللفظي) فإن
الطقوس تعتمد على الاتصال غير اللفظي، وهذا لا يعني انه يستغني عن الاتصال اللفظي
بل الطقوس تجمع بينهما كمخرجات للعلامات الدالة على الطقوس، يتم تداولها وتناقلها
بين الأجيال في إطار تحقيق غاية سوسيونفسية تكمن في الانسجام الاجتماعي، فالطقوس
تختلف حتى بين المجتمعات المحلية كون كل جماعة تحتكم لمجموعة من الرموز الدالة على
طقوسها تمثل بشكل أو بآخر جزء من منظومة قواعد بالنسبة إليها.
تأسيس مدرسة بيرمنغهام:
إن
المسيرة التاريخية لمدرسة بيرمنغهام النقدية امتزجت مع تاريخ مجمع خريجي جامعة
بيرمنغهام، والباحث الاجتماعي البريطاني ريتشارد هوقرت هو الذي وضع الحجر الأساس
لمركز بيرمنغهام للدراسات الثقافية المعاصرة The Birmingham centre for contemporary cultural
studies اختصاراً لـ C.C.C.S، في عام 1964م، وتولى ريتشارد رئاسة هذا المركز ثم انتقلت الرئاسة إلى
ستيوارت هول بعد أن تولى هوجارت رئاسة اليونيسكو عام 1968، وقد بلغت مكانة المعهد
ذروتها في هذه الفترة التي تزامنت مع صعود التيارات اليسارية الجديدة في أوروبا
وأمريكا .
وأثناء
إدارة ستيوارت هول للمركز حتى عام 1979، كان له دور بارز في إصدار مجلة الأعمال
العلمية في الدراسات الثقافية عام 1972، وضمن البحوث والدراسات التي أجراها مع
زملائه المفكرين والمعنيين بالشأن في مركز الدراسات الثقافية، طرح تعريفا للثقافة
وسع فيه نطاقها إلى حد كبير بحيث اعتبرها شاملة لمواضيع تتجاوز نطاق النتاجات
الأدبية مؤكدا على أنها أبعد أفقا من المبادئ الفكرية الثقافية، ومن هذا المنطلق
دون أعضاء هذا المركز دراسات وبحوث علمية تتمحور مواضيعها حول مختلف القضايا
الثقافية والإعلامية وشؤون الشباب والأنثروبولوجيا والإثنولوجيا، وقد تناولت هذه
الصحيفة أوراق عمل في الدراسات الثقافية، والتي تناولت وسائل الإعلام والثقافة
الشعبية والثقافة الدنيا، المسائل الإيديولوجية، الأدب، علم العلامات، المسائل
المرتبطة بالجنوسة والحركات الاجتماعية والحياة اليومية.
وقد طور الباحثون في المملكة المتحدة
والولايات المتحدة صيغاً مختلفة للدراسات الثقافية، وكانت الأبحاث الثقافية
البريطانية متأثرة بمؤسسي وأعضاء مركز برمنجهام، وتشمل تلك الدراسات وجهات النظر
السياسية المختلفة، ودراسة الثقافات الشعبية وصناعة الثقافة، بينما كان اهتمام
الدراسات الثقافية في الولايات المتحدة بالجانب الذاتي والموائم لردود الأفعال
تجاه الثقافة الشعبية، وتركز الدراسات الثقافية في كندا على موضوعات التكنولوجيا
والمجتمع، وفى استراليا تهتم بالسياسة الثقافية، وتركز في جنوب أفريقيا على حقوق
الإنسان، وقضايا العالم الثالث، أما الدراسات الثقافية في فرنسا وألمانيا فربما
كانت غير متطورة نسبياً بسبب تأثير حركة السيميوطيقا القوي في فرنسا، وتأثير مدرسة
فرانكفورت فى ألمانيا التي طورت شكل الكتابة في موضوعات معينة مثل الفن الحديث
والموسيقى والثقافة الشعبية.
المؤسسون
الأوائل
1
- ريتشارد هوجارت: مؤسس مركز الدراسات الثقافية المعاصرة في جامعة بيرمنجهام، وهو
المركز الذي انطلقت منه الدراسات الثقافية لتأسس مراكز على شاكلته في أنحاء
مختلفة من العالم، ويعد كتابه "فوائد القراءة والكتابة – 1975" كتاباً
تأسيسياً في هذا المجال.
2
- ريموند وليامز: ومن مؤلفاته "الثقافة والمجتمع 1958"، والثورة طويلة الأجل
1961، ويرى وليامز أن الثقافة هي كيان واحد لا يتجزأ، وأسلوب حياة كامل من الناحية
المادية والفكرية والروحية، وقد تتبع مراحل تطور الثقافة، كما اهتم بظهور الثقافة الإنسانية في مجتمعات معينة حيث
تشكلها الأنظمة المحلية والمعاصرة.
3
- إ. ب. طومسون: مؤرخ وناقد ثقافي وناشط في مجال نزع السلاح النووي، وقد أحدثت أفكاره تطوراً
نوعياً في هذا المجال، ويرى أن الثقافة لا تُفهم من خلال تجارب الفائزين وحدهم، بل
من تجارب الفائزين والخاسرين، وإسهاماتهم معاً، فلا يمكن أن نصدر أحكاماً بشأن
الناجحين فقط، بينما نهمل غيرهم، وطومسون يفضل ثقافة الطبقة العاملة وينحاز لها،
ويضعها في مرتبة متقدمة من اهتمامات الدراسات الثقافية.
4
- ستيوارت هول: عالم اجتماع وناقد أدبي، انضم إلى مركز الدراسات الثقافية المعاصرة منذ أن أسسه هوجارت
بجامعة بيرمنجهام، وقد أمدّ هول حقل الدراسات الثقافية بتأثيرات ماركسية محوّرة أو مطوّرة،
وقد ظل "هول" مؤمناً بضرورة أن يكون لهذا الحقل من الدراسات ارتباط
وتأثير في الواقع. فالقيمة الحقيقية عنده للمعرفة وللفكر تتمثل في مقدار تفاعلها
وتأثيرها على المجتمع.
5
- بيير بوردو:
يعدّ عالماً في الدراسات الثقافية الفرنسية، ومما يراه أن الملْكة الثقافية هي
القدرة على قراءة الشيفرات وفهمهما، إلا أن هذه القدرة ومن ثم الملْكة الثقافية لا
يتم توزيعها بين الطبقات الاجتماعية بشكلٍ مُتاحٍ.
6
- أشيش ناندي:
عالم نفس وناقد ثقافي، الأب الحقيقي للدراسات الثقافية في جنوب آسيا، طوّر هذا الحقل ليصبح
نشاطاً محلياً يمكن ممارسته في شبه القارة الهندية في مجالات المعرفة والهوية، وهو
يعدّ نفسه من ضحايا "التاريخ"، ومجموعة الأفكار الغربية مثل: العلم،
والعقلائنية، التنمية، الدولة المستقلة…الخ.
الخلفيات الاجتماعية لدراسة
الثقافة:
مما
لا شك فيه أن الثقافة كانت سببا لحدوث أبرز تحول اجتماعي مهد الأرضية المناسبة
لظهور الدراسات الثقافية، فحينما اتجهت الأنظار نحوها باعتبارها بوابة للولوج في
شتى القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية للمجتمع، شهدا العالم
تحولا ثقافيا مشهودا، ومن خلال ما يلي، نحاول مناقشة مسألة الثقافة وتبلورها من خلال المراحل التالية:
المرحلة الأولى: الفترة الكلاسيكية التي امتازت بأن غالبية المنظرين خلالها اعتبروا
الثقافة مصدرا لبيان سلوك البشر، ما يعني أنها عبارة عن متغير مستقل، وقد تزامنت
نهايتها مع بداية مرحلة جديدة رافقت انطلاق الثورة البلشفية وشيوع الفكر الماركيسي
على نطاق واسع.
المرحلة الثانية: ابتدأت في عقد العشرينات من القرن المنصرم بعد انطلاق الثورة البلشفية
الماركيسية في الاتحاد السوفياتي ورواج نظريات كارل ماركس، وخلالها اعتبرت
التطورات التقنية يانعة من ثمار شجرة العلوم التجريبية الحديثة، الأمر الذي أدى
إلى التقليل من شأن التأثير الثقافي، بصفته عاملا ومصيريا في الحياة الاجتماعية.
المرحلة الثالثة: ابتدأت في عقد السبيعينيات من القرن المنصرم ودخلت الدراسات والبحوث
الثقافية فيها مضمار النقد الجاد للنزعات التجريبية الوضعية، وحينها شهدت الساحة
الفكرية انعكاسات واسعة لآراء ونظريات ناقدي الرؤية العلمية الوضعية وعلى رأسهم
الفيلسوفان الألمانيان فيلهلم ديلتاي وهانز جورج غادامير.
قبل
تأسيس مركز بيرمنغهام للدراسات الثقافية، كان هذا النمط من الدراسات واحدا من
المواضيع التي تنضوي تحت مظلة بحوث الفنون والآداب، كذلك تطرق الباحثون
المختصون بالشؤون الأنثروبولوجية والسوسيولوجية إلى تحليل جانب من جوانب الشؤون
الثقافية بحيث لم يكن هناك أي فرع علمي مستقل يتكفل بهذه المهمة.
تجدر
الإشارة هنا إلى أن الثقافة برأي رواد النقد الأدبي في تلك الآونة، تتجسد في
الشؤون الثقافية لعامة الناس ما يشكل خطرا يهدد المعايير الثقافية والأخلاقية في
الحضارة الجديدة، وهذه الحالة أسفرت عن بروز اهتمام أكثر بهذا النمط الثقافي، حيث
تطرق الباحثون والمفكرون إلى دراسة وتحليل طبيعة الثقافات الفرعية بهدف بيان مدى
ارتباطها
بالثقافة السائدة وإلى جانب ذلك دونوا بحوثا حول سائر
المواضيع المرتبطة بهذا الموضوع، مثل السلطوية الثقافية التي تتسم بطابع رأسمالي
والتداعيات الثقافية لنشاطات وسائل الإعلام العامة الحديثة، ومسألة تقبل المجتمع
لشتى القضايا الثقافية والتي يصطلح عليها بالتثاقف.
الثقافات الفرعية عبر الوسائط
المتعددة:
لا
شك أن الأنظمة الحاكمة ومختلف المؤسسات التعليمية الرسمية وغير الرسمية وسائر
المراكز الثقافية والاقتصادية في الشؤون الثقافية، تعد من جملة الخلفيات
الاجتماعية التي أدت إلى بلورت الثقافة الفرعية بشكل خاص،
فهذه الكيانات العامة لها دور مشهود في صياغة النتاجات الثقافية وترويجها على نطاق
واسع في شتى المجتمعات البشرية، فقد شهد العالم في فترة من الزمن ظاهرة أطلق عليها
الصناعة الثقافية لكون المنتجات الثقافية دخلت في ميدان الاقتصاد والتجارة،
مثل السياحة لتتحول خلال فترة قصيرة إلى واحدة من أهم الصناعات العالمية للكسب
المادي، ومن هذا المنطلق أصبحت الكفاءات المعنوية التي كانت توصف يوما ما بأنها
غير منتجة اقتصاديا مصدرا لإنتاج الثروات المالية.
وحينما
ظهرت الشبكات المعلوماتية والوسائط المتعددة، أحدثت تغييرات ملحوظة على
الصعيد الإعلامي، حيث تمكنت العديد من وسائل الإعلام في رحابها من بسط نفوذها على
نطاق واسع وتنوعت نشاطاتها، وهذه الثقافة ألقت بظلالها على الثقافة السائدة في شتى
المجتمعات، وبالتالي انعكس هذا التأثير على السلوكيات الفردية، ومما زاد من أهمية
الدراسات الثقافية خلال هذه الفترة، أن تقنيات الوسائط المتعددة ساهمت في ازدهار
الواقع المعيشي للطبقات الاجتماعية المهمشة وإقحامها في عالم الثقافة، حيث انعكست
آثارها في حياة الطبقة العاملة والأقليات والنساء، والفقراء بعد أن شجعتهم على
الخوض في غمار الإنتاج الثقافي وتبادل المعلومات.
وتعد
ظاهرة الهجرة على الصعيدين الداخلي والخارجي، لها تأثير قوي تعدد وانتشار
الثقافات الفرعية، ففي كل بلد بدأ القرويون يهاجرون إلى المدن، كما أن أبناء بعض
البلدان شدوا الرحال إلى بلدان أخرى، مما أسرفت على هذه الظاهرة مايلي:
- تشتت الفئات القومية وتداخل
الأعراق مع بعضها.
- اكتساب الناس تجارب ثقافية جديدة
تعددت مع تعدد الثقافات العالمية.
- حدوث خلافات ثقافية.
- امتزاج الثقافات الفرعية مع بعضها
البعض.
-
ظهور هويات جديدة مركبة من عدة أصول، أي هويات هجينة.
- تزعزع الهويات القومية واللغوية
والوطنية والدينية.
ومن
العوامل التي أدت إلى بلورت الثقافات الفرعية، نشأة مجتمعات جماهرية جديدة
حملت معها أزمات وتحديات غير مسبوقة، وأهم ما تمخض عن ذلك اتساع نطاق الحياة
المدنية وازدهار التقنيات الصناعية، حيث انتشرت الصناعات الآلية وترامت أطراف
المدن الصغيرة لتصبح مدنا كبيرة إلى جانب تمدن المدن الكبيرة التي تعج بالسكان،
بعد أن استقطبت نحوها أعداد هائلة من الأيدي العاملة والمهاجرين الباحثين عن العمل
والراغبين بالعيش في مجتمعات مدنية حديثة.
هذه
الظاهرة زعزعت القيم الاجتماعية وغيرت بنيتها الأساسية، بعد أن اجتمعت فئات بشرية
متنوعة المشارب والتوجهات في مكان واحد، وارتبطت مع بعضها البعض على ضوء علاقات
جديدة من نوعها، وجراء ذلك تضاءلت النشاطات الزراعية وتشتت سكان القرى بحيث كادت
الحياة القروية التقليدية تؤول إلى الأفول، ناهيك عن تزعزع أركان التدين وشيوع
ظاهرة العلمنة في شتى المجتمعات، وكل هذه الأوضاع كانت بطبيعة الحال على ارتباط
وطيد بالتطور العلمي، حيث شهد العالم سطوة الصناعات الآلية التي جرت على نسق
متواصل إلى جانب ظهور حرف وأعمال جديدة من نوعها، أسفرت عن تهميش الهوية الأصيلة
للعمال والمنتسبين في المصانع وورشات العمل، كما سادت نزعة عامة إلى الإقامة في المدن
الكبيرة التي انعدم فيها النظم الأخلاقي الجماهيري واضمحلت في رحابها المبادئ
الأصيلة التي كانت متعارفة سابقا.
المجتمع
الشعبي برأي باحثي مركز بيرمنجهام للدراسات الثقافية عادة ما يتكون من جماعات
بشرية مشتتة لا يوجد أي ارتباط منسجم فيما بينها ولا تتبنى مُثُلا سلوكية متشابهة،
بحيث كان ارتباطها مجرد توافق إيكولوجي مفروض عليها بالإجبار وتكيف مع البيئة،
وهذا يعني التشبث بمبادئ الإيكولوجيا الثقافية[1].
وقد
ظهرت بعض الحركات الاجتماعية الجديدة على الساحة، بعد أن نشطت تجمعات بشرية فرعية
ذات ميزات إثنية ودينية متنوعة، وأبرزها الحركات النسوية ومنظمات الحفاظ على
البيئة والحركات المناهضة للعنصرية والاستعمار، حيث تمخضت عنها دراسات بحوث ثقافية
متنوعة، وأما مركز بيرمنغهام للدراسات الثقافية فقد تمحورت نشاطاته الثقافية حول
مباحث داخلية ومختلف ردود الأفعال تجاه الحركات الكفاحية والنشاطات الاجتماعية في
عقدي الستينات والسبعينات من القرن المنصرم.
التبعات الثقافية للعولمة: تطرق الباحثون للعولمة لما ترتب عليها من تبعات ثقافية، ويمكن تلخيص
أهم تداعياتها في بما يلي:
تجاوز الحدود الإقليمية.
تهميش التوجهات الثقافية الخاصة والمحدودة.
ترويج مبادئ ثقافية عامة على ضوء تعدد الثقافات
وامتزاجها.
اعتماد أنماط سيميائية متنوعة
تهميش المصادر الكلاسيكية التي تصقل في رحابها الهويتان
الفردية والاجتماعية.
تعدد الهويات وامتزاجها.
انصهار القوميات مع بعضها.
تنوع أنماط الحياة.
ظهور مثُل جديدة للحياة الاجتماعية بشكل متواصل ومتوال.
ظهور ثقافة عامة وشمولية تتجاوز جميع الحدود في العالم
ولا ترتبط بأي مبدأ وطني أو شعبي أو تاريخي.
مع
تزايد حاجة الفرد إلي التعبير عن مكونات هويته المحلية، التي تختلف عن الأخر في
إطار مبدأ الاختلاف والتمايز عن الذوات الأخرى، أصبحت الوسائط الجديدة فضاء ثقافيا
يسمح باجتماع للشباب بنشر وتبادل الممارسات الثقافية الجديدة الفرعية، فبعد أن كان يتلقي المضامين والمحتويات عبر
الوسائل التقليدية، أضحى يستقي هذه المضامين من خلال استخدام شبكة التواصل
الاجتماعي، ويعود ذلك إلى أنماط استخدام الشباب لمواقع التواصل الاجتماعي
واندماجها في حياتهم اليومية، إذ أصبحت تسمى بالشاشة الثانية Le deuxième écran حيث يسمح لهم هذا الفضاء
بالاجتماع في مكان
افتراضي وليس في المكان الواقعي، بالمعنى المادي أي أنه لا يوجد ضرورة للحضور
بالمعنى الفيزيائي كما كان عليه الأمر في السابق، ومن الباحثين من يذهب إلى الحديث
عن الكونية للتعبير عن كسر عائق المكان أو العائق
الجغرافي المحدود وكونية الاتصال، وبعبارة أخرى، أصبحت بيئة الاتصال عالمية
وأصبحنا اليوم نتحدث عن بيئة رقمية عالمية.
كما
تمكن هذه الشبكات تضع المستخدم في مرتبة الفاعل في بيئة رقمية تمكنه من إنتاج
المضامين بمختلف أشكالها، إن شبكات التواصل الاجتماعي باعتبارها تمارس الوساطة médiation
تشجع المستخدم على إنتاج وتبادل ونشر ومشاركة المضامين مع الآخرين، كون
المستخدم هو المسؤول الأول والرئيس على عملية إنتاج المضامين، وهو ما سمح للمواطنين خاصة الشباب منهم النفاذ إلى النقاش
العام على المنصات الافتراضية، ونتحدث عن فئة الشباب كونهم يمتلكون كفاءة تقنية
هائلة قد يعود ذلك نتيجة مسار تطبيقي يستخدمه الشباب المستخدم من خلال الاندماج في
هذه الشبكات أو ما نسميه بالحضور في البيئة الرقمية.
ونحن
عندما نتحدث عن النفاذ نتوخى النسبية في الطرح حيث نجد نوع من التمايز على مستوى
الامتلاك المادي للتقنية وذلك ما يساهم في إعادة إنتاج للفروقات السوسيو اقتصادية والرأس المال الثقافي للأفراد فنجد أن بعضهم لا يتوفر على
الامتلاك المعرفي للتقنية بينما آخرون يمتلكون ويتملكون التقنية.
يتقاسم
أعضاء الصفحات نفس الانشغالات والميولات والاهتمامات أين يتم نشر المضامين
الاتصالية الثقافية من بينها الثقافات الشعبية أو الفرعية، إما من خلال الصفحات
العامة أو المتخصصة إذ تمتلك الهيئة المسيرة للصفحة أو حتى أعضاء الصفحة في حالة
النشر العمودي بالتعبير عن ذواتهم التي تتجلي حسبهم في ما يسميه دومنيك ولتون Dominique Wolton بالهويات الثقافية المحلية، حيث يتملك أعضاء الصفحات التي تعنى
بالثقافة الفرعية، ما يمكنهم تأكيد ذواتهم من خلال التطبيقات والميزات التي
يوفرها له الموقع، من نشر للنص والصور والفيديوهات والملفات ومشاركة الأصدقاء،
ويرى البعض أن من بين أهم العوامل التي تشجع على استخدام كون الفرد بطبعه يريد أن
يستعرض أفكاره ومواهبه وأحلامه وآفاقه المستقبلية.
المحور الثاني
المحاضرة رقم: 5
السلطة والسيطرة:
هناك إشكاليات أساسية
تواجه مفهوم السلطة، لأنها تأخذ معاني متعددة مثل القوة، القدرة، النفوذ، التأثير
والسيطرة، وتشخيص ماهية السلطة وطبيعة العلاقات التي تقوم عبرها وخلالها يختلف من
باحث إلى آخر، باختلاف منطلقاته النظرية والإيديولوجية، وقد عرف ماكس فيبر السلطة
أيضا بأنها: الفرصة المتاحة أمام الفرد أو الجماعة لتنفيذ مطالبهم في مجتمع ما
في مواجهة من يقفون حائلا أمام تحقيقها أو هي المقدرة على فرض إرادة فرد ما على
سلوك الآخرين، ويرى أيضا أنها الإمكانية الخاصة التي يتحلى بها شخص أو مجموعة
من أجل الحصول على مكانة على مستوى العلاقات الاجتماعية، يستطيع من خلالها ودون
الاعتماد على هذه الإمكانية الخاصة أن يفرض إرادته من مقاومة الآخرين، أما
السيطرة فهي حسب مفهوم ماكس فيبر هي مجموع الإكراهات المنظمة التي تفرض نفسها،
في مجتمع ما، على الأفراد الذين يكونونه، ويطلق على السيطرة المراقبة الاجتماعية،
وبالتالي تشير هذه المقولة إلى مجموعة التنظيمات التي تثقل على الوكلاء
الاجتماعيين وفي نفس الوقت تلك التي تنجم عن سلطة يمارسها أفراد على أفراد آخرين.
الإيديولوجيا:
يعتبر المفكر الفرنسي
"أنطوان دستوت دو تريسي أول من استخدم مصطلح الإيديولوجيا في كتابه
بعنوان" عناصر الإيديولوجية" سنة 1825، وكان يعني به علم موضوعه دراسة
الأفكار ( بالمعنى العام لظواهر الوعي)، ومزاياها وقوانينها وعلاقاتها مع العلامات
التي تمثلها وبالأخص أصلها/
وكلمة الإيديولوجيا مركبة من كلمتين: IDEA
ومعناها فكرة، و LOGOS ومعناها علم، لتكون الترجمة اللغوية الدقيقة هي
علم دراسة الأفكار، اهتم الإيديولوجيون بدراسة الأفكار في حالة مثولها الواقعي
بعيدا عن الغيبيات، وهو ما يفسر صبغتها العلمية والمنهجية، واعتمدت على الحقيقة
الكائنة في تفسير الظواهر الاجتماعية في مقابل الميتافيزيقيا، ومنه فإن توجه
الإيديولوجيا العلمي في جانبها التحليلي والانطلاق من الواقع لاستخلاص مادة
التحليل، جعل منها ترتبط في نشأتها بالنزعة المادية التي ظهرت في القرن 18م في
فرنسا، فكان دو تراسي وجماعته فكان ذلك سببا في استلهام أفكارهم وعلمية
المنهج والتحليل من المنهج العلمي التجريبي الذي عرفته الفلسفة انطلاقا من فرنسيس
بيكون وتلميذه كوندياك ثم دو تراسي.
وقد ذهب أنطونيو غرامشي
في تعريف الإيديولوجيا، إلى القول بأنها تساوي الفلسفة، تساوي النظرة الكونية
الشاملة وتساوي السياسة، أي مجمل الأفكار التي تحرك مجتمعا ما، أو تكون أساسا
لوجوده وحركته، وهي لا تشمل فقط النظريات والأفكار العامة بل تشمل كذلك كل أنساق
القيم والمعتقدات، فهي أساس كل نظام إجتماعي وسياسي، وذلك لأن المجتمع لا يقوم على
العنف وإنما على الهيمنة الإيديولوجية، ليست هناك في تصور غرامشي إيديولوجيا
بورجوازية نقية وإيديولوجيا بروليتارية[2] نقية،
فالإيديولوجيا في المجتمع الطبقي هي إيديولوجية مجتمع وليست إيديولوجية طبقة.
مسألة الثقافة والسلطة
مسألة العلاقة بين
الثقافة والسلطة لها أهمية كبيرة، فقد اعتمد غرامشي في تحليلها إلى معايير جديدة
تقوم على الوظيفة والمكانة الاجتماعية التي يشغلها المثقفون في البنية الاجتماعية،
وقد وسع من خلال تلك المعايير مفهوم المثقفين بقوله: إن كل إنسان هو مثقف ولكن ليس
لكل إنسان في المجتمع وظيفة المثقف، كما يرى أن كل طبقة اجتماعية تفرز شرائح من
المثقفين لا يقومون بوظيفة تمثيلها فقط بل يرتبطون بها عضويا، وينشرون وعيها وتصورها
عن العالم.
كما يرى غرامشي أن وظيفة
المثقفين فهم: أولا منظمو الوظيفة الاقتصادية للطبقة التي يرتبطون بها عضويا، وهم
ثانيا حملة وظيفة الهيمنة التي تمارسها الطبقة السائدة في المجتمع المدني، وهم
ثالثا منظمو الإكراه الذي تمارسه الطبقة السائدة على الطبقات بواسطة الدولة، ذلك
أن المثقفين عموما تخلقهم الطبقات الاجتماعية أثناء تطورها، إن الانتساب الطبقي
للمثقفين لا يكون بالضرورة مرتبطا بنشأتهم الطبقية وإنما بانتمائهم الإيديولوجي
أساسا، ولهذا فقد يكون من التعسف الاعتماد على معايير الانتساب الطبقي وحدها في
تحديد الموقف الطبقي للمثقفين، وهنا تثار إشكالية الوجود والوعي في الطبيعة
الطبقية للمثقفين، فقد يتطابق الوجود والوعي الطبقيان وقد يتعارض، ولهذا تتحدد
طبقية المثقفين بالموقف الذي يتخذونه من الصراع الطبقي القائم في المجتمع عامة،
وفي مجال الثقافية الإيديولوجيا.
فالثقافة والسلطة كتلة تاريخية واجتماعية واحدة
تدور داخلها صراعات حول الخيارات الفكرية، وتفاوت النظرة إلى الأمور، وهو ما يعبر
عن نفسه في سعي المثقف إلى بناء سلطته الثقافية، فيما تعمل السلطة ومؤسساتها على
تكوين مثقفيها وثقافتها الخاصة، كما تعمل على تعزيز الوضع القائم وترسيخه ومنع
التغيير فيه، بل وتكريس القيم السائدة والحفاظ على منظومتها.
الثقافة بوصفها إيديولوجيا:
درس معظم السوسيولوجيين
الكلاسيكيين بمن فيم كارل ماركس، طبيعة المجتمع الحديث في ضوء زيادة
التعقيدات في تقسيم العمل والتمايز البنيوي، وكان لماركس آراؤه الخاصة في هذا
الموضوع، كونه شيوعيا ثوريا هدفه الإطاحة بالمجتمع الرأسمالي، وقد طور ماركس منهجا
ينتقد بشدة هذه التطورات الاجتماعية، وينتقد الآراء المتفائلة والمتملقة كآراء سبنسر،
حيث تبنى ماركس أفكارا رومانتيكية في مجتمع بعيد عن المثالية، مثله مثل الكثيرين
من المفكرين الألمان فرأى أن المجتمع الحديث في ذلك الوقت كان يتسم بالبرود
والميكانيكية، إن لم يتخذ في الواقع شكلا من أشكال المجتمعات القاسية التي عزلت
الأفراد بعضهم عن بعض، والتي اتسمت بالبؤس الاجتماعي، فلم يرحب ماركس بمثل
هذا الوضع الثقافي للمجتمع، لا بل سعى لتدميره وتحطيمه عن طريق تشجيع ثورة الطبقة
العاملة، لقد آمنت كل من الرومانتيكية والتنويرية بأهمية التحرر البشري، ولكن كل
على طريقته، فرأت التنويرية أن الحرية البشرية تتحقق بالسعي وراء المعرفة العلمية،
فيما رأت الرومانتيكية أن السبيل إلى الحرية هو الحياة البيروقراطية المنظمة
والتمرد على السلطة، وقد أبقى ماركس على هذه النزعة الرومانتيكية في فكره، ولكنه
حول تركيزه إلى النشاطات الثورية الجماعية التي تقودها الطبقة العاملة ضد أسيادها
الرأسماليين.
إن المنهجية الفعلية التي
اتبعها ماركس في دراسته للمجتمع والثقافة كانت مدينة لمنهجي العلوم الطبيعية
والنماذج التنويرية، التي برزت في فرنسا وبريطانيا أكثر من العلوم الثقافية في
ألمانيا، بل ركز ماركس بأفكاره على ضرورة التمرد على النزعة الروحية الغالبة على
الفكر الألماني، وأن تستبدل بها أساليب لفهم الحياة تأخذ بالاعتبار العوامل
المادية أيضا، وتشمل العوامل المادية علاقات القوى الاجتماعية والعلوم
السوسيولوجية التنويرية والصلة بين المجتمع والثقافة والطبيعة- وهو الموضوع الذي
ركز عليه الكثير من المفكرين التطويريين الذين عاصروا ماركس مثل سبنسر،
وقد ركز ماركس بشكل خاص على الفيلسوف هيجل الذي كانت فلسفته الروحية
قوة مسيطرة في الفكر الألماني آنذاك.
ويمكن أن نقول أن هيجل،
مثل هيردر يرى أن المجتمع نتاج ثقافة فريدة من نوعها خاصة به، وعد هيجل أن الثقافة
(مثل الأفكار) هي العامل الرئيس في حياة أي مجتمع، أما العوامل السياسية
والاقتصادية فبالكاد وقف عندها، وعلى الرغم من أن ماركس وجد بعض الفائدة في بعض
أفكار هيجل، وبخاصة فكر تغير الثقافة والمجتمع عند نشوب صراع بين قوى متعادية، إلا
أنه أصر على أن أفكار هيجل لابد أن تقلب
رأسا على عقب، ونتيجة لهذا التغير في اتجاه التفكير، ظهر منهج جديد سمي بالمادية
التاريخية، وقد ركز هذا المنهج بشكل أساسي على أن " نشاط الأفراد الحقيقيين
والظروف المادية التي يعيشونها إما أن تكون نتيجة لأنشطتهم، وإما أنهم وجدوها
قائمة كما هي"، وقد قلب ماركس هذا الإدعاء والفلسفة المثالية بشكل عام،
بأن العالم الاجتماعي نتاج الأفكار، عندما قال أن العالم الاجتماعي في واقع
الأمر هو المسؤول عن إنتاج الأفكار، ورأى أن المجتمع هو الذي ينتج الثقافة
وليست الثقافة هي المسؤولة عن إنتاج المجتمع، وعبر عن هذا الموقف بقوله "
وعي الناس لا يرسم حدود وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يرسم حدود وعيهم".
لذلك أصر ماركس على إتباع منهجية لا تبحث في الثقافة والعوامل المثالية على أنها المسؤولة عن إنتاج العوامل الاجتماعية، وإنما اتبع منهجية أخرى تفسر كيفية توليد العوامل الاجتماعية للظواهر الاجتماعية، ويجب الإشارة هنا إلى أن العوامل الاجتماعية تسمية خاطئة، لأن ماركس نظر إلى العوامل الاقتصادية الاجتماعية على أنها أساس كل شيء بما في ذلك الثقافة، وقد طور ماركس في كتاباته الأولى فكرة أن البناء الاقتصادي المنظم اجتماعيا لأي مجتمع يشكل ثقافته، ثم توسع في هذه الأفكار لاحقا عندما وصل في كتاباته إلى مرحلة النضج، كانت الصورة التي رسمها ماركس للعلاقة بين العوامل الاقتصادية الاجتماعية والعوامل الثقافية في كتاباته اللاحقة إحدى الأمور الأكثر إثارة للجدل في دراسته لسوسيولوجيا الثقافة، وهي فكرة البنية التحتية والبنية الفوقية.
مدرسة فرانكفورت
التطور: تشكل معهد البحث الاجتماعي الذي تأسس
بجامعة فرانكفورت،
بقرار من وزارة التربية بتاريخ 3 فبراير1923، وافتتح رسميا في
يونيو 1924، النواة التنظيمية الأولى لمدرسة فرانكفورت، قبل
التكوين الرسمي لهذا المعهد رأس كيرت جيرلاخ هذا التجمع الفكري، لكنه توفي
قبل افتتاحه بقليل، فاختير لإدارته المؤرخ كارل جرونبرج ما بين عامي 1923- 1929، والذي
كرس توجهات بحوث المعهد نحو أطروحات الماركسية الأورثوذكسية، ونحو أنشطة الحركة
العمالية الأوروبية وكان عضوا منخرطا في صفوفها.
وفي يناير 1931، خلف ماكس هوركهيمر ( 1895-
1973) كارل جرونبرج ( 1861- 1940)،
وانضم إليه معظم المفكرين المشهورين فيما بعد: ايريك فروم
( 1900- 1980)، هربرت ماركيوز ( 1898- 1979)،
تيودورأدورنو ( 1903- 1969)، كذلك اريك فروم (1900-1980) وكثير غيرهم ( ليو ليونتال، هنريك جروسمان، كارل فيتفوجل، جورج لوكاش ،
كارل كورش، فردريك بولوك ،...) بالإضافة إلى هابرماس
Habermas الذي
يعتبر الوريث الرئيسي المعاصر لتركة مدرسة فرانكفورت.
أما عن مصطلح "مدرسة فرانكفورت" فهو مصطلح غير رسمي يستخدم للتعبير عن المفكّرين الذين انتسبوا لمعهد البحث الاجتماعي أَو الذين تأثروا به، وهو لم يكن عنواناً لأي مؤسسة واقعية، وحتى المفكرون الرئيسيون لمدرسة فرانكفورت لَم يستخدموا هذا التعبير لوصف أنفسهم، فهو واحدا من تسميات عدة لهذا التجمع الفكري بالإضافة إلى تسميات أخرى عديدة لها مثل الماركسية الأوروبية Euro Marxism تمييزا لمفكريها عن التفسيرات التي قدمها منظرو الأممية الثانية والثالثة للماركسية.
ورغم انطلاق هؤلاء المفكرين من الماركسية كإطار
مرجعي إلا أن مواقفهم اختلفت حول القضايا المطروحة فى المجتمع الرأسمالي وتراوحت بين الالتزام المطلق بالماركسية (جرونبرج وفبلكس فيل) والالتزام
النسبى (هوركهايمر وأدورنو وهابرماس) واتفقوا على ضرورة التزام المثقفين بمواقف
ايجابية نقدية إزاء مجتمعاتهم .
ومع استيلاء هتلر على الحكم في ألمانيا، أغلق
المعهد وصودرت مكتبته، وغادر أعضاؤه، عام 1933 إلى بعض العواصم الأوروبية، وأنشئوا
فرعا له في جنيف أطلقوا عليه "المؤسسة العالمية للبحث الاجتماعي" وكونوا
له إدارة جماعية، إضافة إلى فرعين آخرين في لندن وباريس، وبسبب التوسع
النازي، اضطر هؤلاء المفكرون ثانية إلى مغادرة أوربا عام 1934، متوجهين إلى
الولايات المتحدة، ونقلوا المعهد معهم إلى نيويورك باسم "المدرسة الجديدة
للبحث الاجتماعي"، ليستقر بعد ذلك في الحرم الجامعي لجامعة كولومبيا، ثم ما لبثوا أن انتقلوا عام
1941 إلى لوس أنجلوس.
أثرت هجرة أعضاء المعهد إلى
الولايات المتحدة في أعمالهم، ولذا فهم ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وغروب
النظم الفاشية والنازية، بدأوا تحليلا جديا للمجتمع الرأسمالي، الذي رأوا نمط
صعوده الجديد في الولايات المتحدة، خاصة مع تنامي (المعجزة الاقتصادية) التي كونت
رأسمالية قوية، حالت دون فعالية الطبقة العاملة في تحقيق أهدافها، وهذا ما يفسر
توجه بحوث المعهد هناك إلى قضايا عديدة في هذا المجتمع، كقضية السيطرة الشاملة،
والقضاء على قيمة الفردية، والقهر التقني، وصناعة الثقافة، وعموما عاد معهد
البحوث الاجتماعية مرّة أخرى إلى موقعه الأصلي في مدينة فرانكفورت،
حيث عرف لأول مرة باسم) مدرسة فرانكفورت( تحديدا لتكوينه
الجديد كمدرسة نقدية.
تجب الإشارة هنا أن الدراسات النقدية لم تتأسس على فكرة المنبه أو المحفز المبتذلة، ومساهمتها الكبرى تتجلى في إقحام التفكير حول الإيديولوجيا في البحث عن وسائل الإعلام ( التأثير الإيديولوجي)، وفي إقامة علاقة التاريخ والاتصال، وهكذا مددت النظرية النقدية أفكار ماركس حول الاستغلال الاقتصادي وأدخلت فكرة السيطرة الاقتصادية والاجتماعية إلى عالم الثقافة ( لنتذكر القول الماركيسي المأثور والعام: الأفكار المهيمنة هي أفكار الطبقة المسيطرة، إن الثقافة مجال يتجلى فيه ميزان القوى، وليست مجرد ترفيه نزيه أو فن بلا غاية")، لكن العلاقة التي تقيمها هذه النظرية بين الثقافة والهيمنة الاقتصادية والسياسية تظل جامدة وصارمة، فالبنية التحتية (الاقتصادية) تحدد البنية الفوقية (الثقافة)، ولا خيار للإنسان الجماهيري - وفق نظرية النقدية- سوى الهيجان (التوتر الرجعي للحشد الهيستيرري الذي ندد به المفكرون المحافظون) أو عدم المبالاة والخمول (زفرات الكائن المقهور، التي يستنكرها الثوريون)، ولكليهما تأثير المخدر المسيطر على العقل.
المحاضرة رقم: 6
من الثقافة الجماهيرية إلى
الصناعة الثقافية (الإيديولوجيا والسلطة):
في نظر أدورنو وهوركايمر،
أن الحداثة تتسم بانتشار التكنولوجيا في كل مكان وسلعنة العلاقات الإنسانية وتفكك
المؤسسات الاجتماعية الكبرى مثل العائلة التي تأوي الأفراد وتعطي لهم معنى لحياتهم
في ظل ضغط عالم الشغل وروح المنافسة، وبالتالي تعرض أعضاء المجتمعات الصناعية
لمعاناة نفسية، وأصابهم الوهن ومن وجهة نظر إيديولوجية على وجه الخصوص ووصفت حنة
أرندت هذه الهشاشة المفترضة بشكل صادم، فأكدت أن الاستبداد إذا تمكن من تثبيت
أركانه فالسبب يعود إلى استفادته من الانسلاخ عن الجذور الاجتماعية وفقدان
المعايير الاجتماعية، فخاصية الإنسان الجماهيري الأساسية عبر عنها انعزاله ونقص
علاقاته الاجتماعية، وفق ما ذهب إليه أدورنو وهوركايمر، اللذان شخصا على
المنوال ذاته أمراض المجتمعات المعاصرة في ظاهرة التشذر الاجتماعي: " لقد
ترك الناس لحالهم من دون عناية فأصبحوا غرباء عن ذاتهم (فباغترابهم) وفقدانهم
جذورهم الاجتماعية وانفصالهم عن جماعات انتمائهم، أصبحوا عرضة للتضليل من القوى
الجديدة التي تحكم المجتمع، وبواسطة وسائل الإعلام، على وجه الخصوص التي يواجهونها
مباشرة".
وانتقد أدورونو في
دراسته للبرامج للبرامج الموسيقية الإذاعية، وضع الموسيقى التي تم الحط من قدرها
بحيث لم تعد إلا تزيينا للحياة اليومية، كما فضح ما أطلق عليه مصطلح السعادة
المغشوشة للفن التأييدي، بمعنى الفن الموالي المندمج مع الأنساق القائمة، واستحدث أدورونو وهوركايمر، في منتصف الأربعينات مصطلح الصناعة
الثقافية إذ قدما دراسة نقدية للإنتاج الصناعي للمواد الثقافية، باعتبارها ظاهرة
شاملة تهدف إلى تحويل الإنتاج الثقافي إلى سلع، فالمنتجات الثقافية، والأفلام،
والبرامج الإذاعية، والمجلات تحيل على نفس العقلانية التقنية ونفس الصيغ التنظيمية
والتخطيط الإداري المتبع في الإنتاج الصناعي للسيارات أو المشاريع الحضرية،
"لقد تم الإعداد لكل شيء مسبقا، ليجد كل فرد ما يناسبه، بحيث لا يستطيع
الفكاك"، فكل قطاع إنتاج يماثل القطاعات الأخرى، وهي بدورها متطابقة بالنظر
إلى بعضها البعض، فالصناعة الثقافية توصل بضائعها المتماثلة إلى أي مكان، ملبية
حاجات كثيرة متنوعة ومعتمدة على معايير إنتاجية موحدة في إشباع هذه الطلبات، ومن
خلال نمط صناعي في الإنتاج نحصل على ثقافة جماهيرية مكونة من سلسلة من الأشياء
تحمل بكل تأكيد بصمة الصناعة الثقافية: إنتاج غزير- تماثل معياري- تقسيم
عمل، هذه الوضعية ليست نتيجة قانون يخضع له التطور التكنولوجي، بل مردها إلى وظيفة
التكنولوجيا في الاقتصاد الحالي، إن العقلانية التقنية حاليا هي عقلانية السيطرة
ذاتها فالميدان الذي تتمتع فيه التقنية بسلطة كبيرة على المجتمع، هو ميدان أولئك
الذين يسيطرون عليها اقتصاديا.
إن الثقافة الجماهيرية
التي أعيدت تسميتها بالثقافة الصناعية، لتأكيد طابعها الميكانيكي والمؤتمت،
لا تقتصر على استخدام الديكتاتور إياها، إنها قصف مستمر لملكة الحكم وإنامة للعقل
بواسطة ضروب اللهو، فمنذ ميلادها القريب في القرن 19 وهي تدمر ثقافة الماضي،
الثقافة الشعبية الأصيلة، وثقافة التقاليد الشفوية والمطبخية التي تستند إلى الفن
الدوني، وتدمر تقاليد الفن الراقي الذي يبحث عن الصعوبات والعناية بالتعبير الرسمي
ونقد الهرميات، فسلطة الذي يفرض ذاته في كل مكان لا تعد ثقافة حقيقية، وإنما مجرد
هيمنة مستمدة من قدرته التقنية وكفاءته في إنتاج البرامج الإذاعية المتسلسلة،
والأفلام والروايات التي تستند إلى الأخلاق التي تستوعب بسهولة وترضي الذهن.
لقد اعتبر هؤلاء الفلاسفة
الاستعراض الترفيهي الذي كانت تقوم به وسائل الإعلام الألمانية في الفترة الفاصلة
بين الحربين، وهما وتمويها لحجب بروز النازية، وقد اصطدموا في هجرتهم إلى نيويورك
بالثقافة الشعبية الأمريكية التي تزعج المثقفين، وأدى كل هذا إلى شحذ حكمهم
المعادي لهذه الثقافة.
فوضعت مدرسة فرانكفورت دراسات
مكثفة وواسعة لما أسمته "صناعة الثقافة"، التي تعني في نظرها الصناعات
الترفيهية والترويجية التي تدخل في عدادها أنشطة السينما والتلفاز والموسيقى
الشائعة والإذاعة والصحف والمجلات، ويرى ممثلو هذه المدرسة أن انتشار صناعة
الثقافة، بما تنطوي عليه من منتوجات سهلة ونموذجية الطابع، من شأنها أن تقوض قدرة
الأفراد على التفكير النقدي المستقل، مما أدى إلى اضمحلال الفنون الإبداعية، وحصر
انتشارها وتوزيعها في ترويج منتجات تجارية تتم فيها المتاجرة بجوانب منتقاة من
التراث الفني".
المدارس والمقاربات المنهجية لدراسة الرسائل الإعلامية
هناك العديد من المدارس
الفكرية والمنهجية التي حاولت إخضاع الظاهرة الإعلامية للدراسة والتحليل العلميين،
قصد التعمق في فهمها ورصد تأثيرها والتنظير لتطورها، وهي تقريبا ذاتها التي طبعت
الفكر الاجتماعي في القرن العشرين، ويمكن أن نذكر منها مايلي:
أولا/النظرية الوظيفية: ترى المجتمع نسقا
اجتماعيا مترابط الأجزاء، يقوم كل جزء بإنجاز مجموعة من الوظائف، وتعد وسائل
الاتصال الجماهيري أحد أجزائها، تساهم بجانب الأجزاء الأخرى في تلبية حاجات
المجتمع الخاصة، وفي أداء مجموعة من الادوار التي تعمل على تطور المجتمع وانسجامه،
وهي: تداول الإرث الاجتماعي- المحافظة على الوضع وعلى التنظيم الاجتماعي القائم-
مراقبة المحيط واستيعاب كل جديد فيه وتوظيفه لذات الأغراض.
ومن رواد هذه المدرسة
الكثيرين يمكن أن نكر منهم على سبيل المثال: شارل ر رايت Charles
R Wright،
وميلفن ديفلور Defleur melvin و أياهو كاتز E. Katez و جون كليبر J-Klapper و جون ستوتزل Stoetzel ، وجون كزنوف J.Cazeneuve.
ثانيا/النظرية النقدية: وهي نظرية مستلهمة
من الماركيسية، ترى أن وسائل الاتصال الجماهيري هي أطر ضمن البنى الفوقية للمجتمع،
العاملة على إنتاج الإيديولوجية المهيمنة، انطوت عدة تيارات تحت لواء هذه النظرية،
نذكر منها:
التيار الذي تمثله مدرسة
فرانكفورت، ويتناول بالنقد وسائل الاتصال الجماهيري(
الصناعات الثقافية)، انطلاقا من المضامين التي تقدمها ( الثقافة الجماهيرية)، ومن
تأثيرا نتيجة تسليعها ( تحويلها إلى سلعة)، فيذكر أنها تحولت إلى ثقافة سطحية
وامتثالية، خالية من كل تجربة أصيلة ومتميزة وناقدة، من أبرز روادها: هوركايمر
وأدورنو و هربرت ماركيز.
التيار الذي ينطلق من
الاقتصاد السسياسي في تحليل وسائل الاتصال الجماهيري موليا الأهمية المرجحة
للعامل الاقتصادي، ومن رواده مردوك وغولدينغ و برنار مياج.
التيار الذي ينطلق من
مقولة الهيمنة في دراسته لوسائل الاتصال الجماهيري، فيولي الأهمية للعامل
الإيديولوجي المستقل نسبيا عن العامل الاقتصادي، ومن الذين تبنو هذا التيار نذكر
على سبيل المثال، أرموند متلار ، وهربرت شيلر.
ثالثا/ نظرية المحدد التكنولوجي: وهي التي
تؤرخ لتاريخ البشرية بتطور أنماط الاتصال: النمط الشفوي، والنمط المكتوب، والنمط
السمعي البصري (الالكتروني)، تنطلق من أن العامل التكنولوجي هو المحدد الحاسم في
تطور وسائل الاتصال الجماهيري، وأن الطبيعة التكنولوجية لهذه الأخيرة هي التي تحدد
نمط تفكير الأشخاص وسلوكهم بل تربط بعض الانجازات الهامة والمعقدة التي حققتها
البشرية، كالقومية مثلا، وبعض النظم الاجتماعية والسياسية والعمرانية:
(الامبراطوريات، المدينة) بسيادة هذا النمط الاتصالي أو ذلك، وانتشرت هذه النظرية
بأعمال كل من: هارولد إينس، مارشال ماكلوهان، وألسون وستوك وغيرهم.
رابعا/ البنيوية: انتقل مفهوم البنيوية من
مجال الفن المعماري إلى مجال البيولوجيا في القرن السابع عشر، ثم إلى مجال الفلسفة
والأنثروبولوجيا والتحليل النفسي والأدب في القرن التاسع عشر، وأصبحت تدل على
البناء، النظام، نسق من العلاقات، الشمولية...
إن التحليل البنيوي لمادة الاتصال الجماهيري يتجاوز نقائص التحليل الكلاسيكي لمحتواها، حيث لا يكتفي بالمحتوى الظاهر، بل يغوص في المعاني المستترة داخل العلاقات وضمن وضع إنتاج المادة المذكور، إن تحديد مواقف وآراء ووجهة نظر منتج الخطاب الإعلامي لا تبرز في نظر البنيويين من خلال الأهمية الكمية الممنوحة لهذا الموضوع أو لتلك الفكرة، بل تتجلى عبر اكتشاف العلاقة القائمة بين الرموز وفي الخطاب ذاته، وهذا يعد أحد الجوانب الهامة في معنى الخطاب، أي دراسة العلاقات البنيوية بين الرموز كمنتجات للمعاني والتي تتم بالاستقراء وليس بالاستنتاج، ويتعدى التحليل البنيوي حقل دراسة مادة الإعلام إلى مادة الاتصال: تحليل الخطاب، والسرد والصورة وصولا إلى دراسة الأسطورة وسير الإيديولوجية.
المحور الثالث: الإعلام الرقمي والتجارب الحسية والوجدانية
للتقنيات الحديثة
المحاضرة رقم: 7
"شيئا فشيئا، ستصبح الآلة جزءا من الإنسانية...."، هكذا كتب
المؤلف الفرنسي أنطوان دوسانا كزوبيري في مذكراته المنشورة عام 1939، تحت عنوان الريح، والرمال، والنجوم[3]،
لقد ارتبط إنسان هذا العصر بالتقنية أكثر من أي عصر آخر، وبالتالي كان أثرها
عليه أعمق من أي مرحلة من مراحل حياته الاجتماعية، فمع نمو هذا الفضاء سيتغير
فهمنا لكل جانب من جوانب الحياة تقريبا، بدءا من تفاصيل حياتنا اليومية، ومرورا
بالأسئلة الأكثر عمقا المتعلقة بالهوية والعلاقات، وصولا المعارف والتجارب
الإدراكية والوجدانية لهذه التقنيات الحديثة وعلاقتها بالفرد والمجتمع، نحاول في
هذه المحاضرة، تسليط الضوء على الإعلام الرقمي، مفهومه خصائصه، ....
وسائل الإعلام الرقمي:
مهدت شبكات الانترنت
الطريق أمام المجتمعات كافة للتقارب والتعارف من خلال ربط أجزاء العالم بفضائها
الواسع، وتبادل الآراء والأفكار والثقافات، وتشير الدراسات الحديثة إلى أن هذه
التقنية الحديثة قد فتحت مجالات التواصل المعلومات، وساعدت على ظهور ما يسمى اليوم
بالقرية الكونية الصغيرة التي تختفي فيها عناصر الزمان والمكان والحدود.
نقصد بها كل الوسائل
الرقمية التي تشترك في سمة واحدة أنها ترتبط بشبكة الانترنت، وقد تعددت تصنيفات
ومسميات هذه الظاهرة لدى المهتمين والمختصين في مختلف المجالات، إذ أطلقوا عليها: الإعلام
الجديد، الإعلام البديل والإعلام الاجتماعي وغيرها من التسميات والتي تعبر عن
ظاهرة تقنية جديدة تشمل الشبكات الاجتماعية الافتراضية والمدونات والمنتديات
الإلكترونية والمواقع الإلكترونية لوسائل الإعلام التقليدية والمجموع كانت على
مواقع الفايسبوك أو اليوتيوب وغيرها من الأشكال الرقمية.
أما
تعريف الإعلام الرقمي فيعرفه Bean بين، بأنه الفئة الديناميكية العليا من الإعلام والتي تتضمن عناصر متعددة
الوسائط ( الصور المرئية والصوت)، أما كورتريل Cottrell فيعرف الإعلام الرقمي
بأنه عنصر أو مجموعة من عناصر تجمع بين النص والصوت أو الفيديو أو الصور بغرض نقل
المعلومات التي تؤدي إلى معنى في ذهن المستخدم، كما يعرف ألفيرمان وبيتش وبوغس
Alvermann, Beach &
Boggs، الإعلام
الرقمي بأنه مصطلح يطلق على أدوات الاتصال التي تتضمن تحويل البيانات إلى
تنسيقات قابلة للقراءة آليا داخل الشبكات التي يستطيع الأشخاص الوصول إليها، ويمكن تعريف الإعلام الرقمي: هو الإعلام الذي يستخدم الوسائل
الاتصالية الإلكترونية كافة المتاحة على شبكة الانترنت للوصول إلى الجمهور أينما
كان وكيفما يريد.
الإنسان والإعلام الرقمي( بين الذات والإدراك):
إن العيش في عالم يفتقد
لمعالم العمران المادية في غياب واضح للجسد، سيحدث تغييرات شاملة على النفس
والعقل، فالجسد في هذا الفضاء لا يمتلك أي ميل أ رغبة أو توجه محدد اتجاه البنية
التي يقيم فيها، وينتج عن هذه الحالة حصول توترات شديدة بين الذات وحقل الإدراك
الحسي الذي يحيط بها، إن الذوات غير السوية في العالم الواقعي تختلف كلية عن
الذوات غير السوية في العالم الافتراضي، تماما مثلما يختلف الإرهابي الواقعي عن
الإرهاب الإلكتروني.
يقتصر حضورنا الجسدي في
العالم الافتراضي على أفعال الرؤية والسمع، حيث ينحصر دورها الوظيفي في ملامسة
جدران هذا العالم بينما تلج الأفكار والمشاعر إلى أعماق البنية الأساسية للفضاء
الرقمي المتمثلة في الرغبة الجماعية في التواصل الفكري، إن الجسد يدرك جيدا أن لا
مكان له داخل الفضاء الافتراضي، وأن هذا العالم لم يصمم لاستيعاب رغبات وميول
الجسد، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقوم علاقة مشتركة بينهما فالتفاعل معنوي،
ومهما اقترب الجسد من هذا العالم فلن تحصل له اللذة التي يمكن أن تحصل له في
العالم المادي، إنه بالفعل عالم خال من الأجساد، فأصحاب النزعة الصادية الذين
يميلون إلى تعذيب الأجساد لن يجدوا ضالتهم في هذا الفضاء مهما بلغت جرائمهم
الإلكترونية من تدمير للبنية التحتية، فلن تتحقق لهم تلك النشوة التي كانوا يشعرون
بها في العالم المادي أين يكون الجسد متاحا لهم.
إن القيمة في العالم
الافتراضي الإلكتروني مرتبطة بالجسد الصورة متجاهلة الجسد البنية، فتفاعل البشر
داخل هذا الفضاء هو في الواقع تفاعل صور قبل تفاعل أفكار بعدما تطورت الانترنت إلى
الحد الذي نعرفه اليوم، لا يمكن فهم الحركات البنيوية للجسد في الواقع المادي
بعمق، لكن ما يظهر منه كصورة على الشاشة يمكن تحليل عناصره وفهم توجهاته لأنه محصور
في أبعاد الشاشة، إن هذا الفضاء الجديد بيئة مختزلة يتم من خلالها اختزال جميع
الكائنات المعلوماتية إلى صور مرئية أو أيقونة، أو إلى مجموعة من الألوان والأشكال
أو رموز ثنائية أو أبعاد الفضاء الثلاثة.
الإدراك المهجن للتقنيات الحديثة:
أن الجلوس أمام شاشة الحاسوب
والتعامل بهدوء مع ما يدور في بيئتها الرسومية المفعمة بالأحداث، يعد نمطا جيدا من
أنماط تعديل حالة الوعي لدى الإنسان، فقراءة خطاب في البريد الإلكتروني، وممارسة
الدردشة الإلكترونية مع مستخدم يقبع في بلد بعيد، يورثنا الإحساس بمزيج غريب وغير
مألوف الأحاسيس التي تتداخل فيها عتبة شعورنا بالذات، وبذات الآخر الذي نُديم
الاتصال والحوار معه، إن ممارسة لعبة محسوبة، مفعمة بالكائنات المبتدعة، وبأشكال
لم نألفها سابقا، ومباشرة مجموعة من الأفعال التي لا تتطابق مع منطلق الحياة
اليومية، وزيادة عمق الوصف الرسومي للكيانات الرسومية المتحركة في بيئة الوسائط
المتعددة، وزئير الأصوات المنطلقة من هنا وهناك، سيورثنا مزيدا من مستويات
الإلتفات بالوعي، وسيتطلب منا مباشرة أكثر من مرحلة من مراحل التحديث في مدركاتنا
لكي ننجح في التكيف مع البيئة المعلوماتية المثقلة بأشكالها المفعمة بالألوان
والأصوات والحركات غير المتوقعة.
المدارس الفكرية والنظرية لدراسة علاقة الإعلام الرقمي بالفرد
والمجتمع:
في حديثنا حول الإعلام
الرقمي يتبادر في ذهننا البحث في طبيعة علاقة هذه الوسائل التقنية بالفرد
والمجتمع، وقد أسهمت وجهات نظر العديد من الباحثين في إثراء الجدل حول هذه القضية، وقد ساعدت التقنيات الحديثة على تصوير خيال الإنسان
وإعادة التوازن الصحي للحواس وجعله فردًا اجتماعيًا داخل "الدوائر
الإلكترونية" كما أسماها ماكلوهان، وذلك لأنها تعمل على توسيع وتقليد عمل
العقل البشري وإدماجه في النظم الاجتماعية حتى لو كانت الإلكترونية فقط،
وسنحاول مناقشة المبادئ الأساسية والرئيسية التي من الممكن أن تفسر العلاقة بين
وسائل الإعلام الرقمي والمجتمع أو كيف أثر على حياته اليومية من خلال المداخل
التالية:
أولا ماكلوهان McLuhan :
كانت أراء وتوجهات
ماكلوهان السباقة في مناقشة علاقة الإنسان بالتقنيات الحديثة، ويعود ذلك إلى أن
ماكلوهان هو المنظر الأول القائل بأن أهمية وسائل الإعلام لا تكمن في المحتوى الذي
تنشره ولكن في أشكال وسائل الإعلام نفسها، في الواقع فإن عبارته الاولى الشهيرة والمبهمة
نوعا ما " وسائل الإعلام هي الرسالة"، يمكن أن تفسر بطريقتين: الطريقة
الأولى أنها تدل على الأولوية المطلقة لأشكال وسائل الإعلام والتي في الواقع تقوم
بنقل رسائل حاسمة، والطريقة الثانية أن محتويات أي وسيلة إعلام جديدة في حقيقتها
وسائل إعلام قديمة، فطريقة التفسير الثانية ترى أن مقولة ماكلوهان يعتمد نوعا ما
على التطور التاريخي لمختلف وسائل الإعلام، وبالتالي فإن ماكلوهان يرى بأن الخطاب
الشفهي كان أول وسيلة إعلام، وفي وقت لاحق ومع تطور وسائل الإعلام وظهور اللغة
المكتوبة- والتي اعتبرت الكلام هو المحتوى الذي تقوم بنقله- استخدام اختراع
الطباعة كمحتوى له، ثم استخدمت السينما الطباعة كمحتوى لها وهكذا دواليك، لذلك
فالرسائل المحددة أو محتويات وسائل الإعلام ليست مهمة أو ذات علاقة قوية بقدر
أهمية وسيلة الإعلام الفعلي نفسها، وهو ما يفسر إصرار ماكلوهان على أن محتويات وسائل
الإعلام الرقمي تتضمن جميع وسائل الإعلام الأخرى السابقة، في حين يركز التفسير
الأول لمقولة ماكلوهان على أولوية وسائل الإعلام في علاقتها بالناس والمجتمع،
ويرجع هذا التفسير إلى مقولة ماكلوهان الشهيرة بان وسائل الإعلام هي امتداد
لحواس الإنسان، فعلى جد تعبير ماكوهان بأن جميع وسائل الإعلام -من الأبجدية
الصوتية إلى الكمبيوتر - هي امتداد لحواس الإنسان، وتسبب تغيرات عميقة ودائمة فيه
وتؤدي إلى تحول بيئته، وبشكل أكثر تحديدا فإنه ينظر إلى وسائل الإعلام على أنها
إما امتداد للبشرية أو تحييد لها إلا أنها في كلا الحالتين مرتبطة ارتباطا وثيقا
بحياة الناس، فبالنسبة لماكلوهان يمكن لوسائل الإعلام أن تمد من حواسنا ولكنها من
الممكن أيضا أن تحد منها، فأي وسيلة يمكن أن تزيد أو تسرع من العمليات أو الحواس
البشرية أو تبطئ منها، وهذا هو في الحقيقة تأثيرها على الأفراد، فعلى سبيل المثال يعد
الهاتف امتدادا للصوت البشري ولكنه أيضا في نفس الوقت يحد من عملية التفاعل وجها
لوجه بين الناس، ومما لا شك فيه أن الحد من التفاعل المباشر لا يقتصر فقط على
وسيلة الهاتف والهاتف النقال وإنما يعد أيضا هو نفس النقد الذي فيه كثيرا ما يوجه
مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام.
يقول ماكلوهان "الوسيط يغيرنا ويؤثر على البنية الفردية والاجتماعية، لأننا نتفاعل معه مرارًا وتكرارًا حتى يصبح جزءًا من أنفسنا، فنحن اليوم لا نستطيع تخيل حياتنا بلا الهواتف الذكية والإنترنت، لأن كل وسيط يدفعنا لاستخدام حواس معينة ليخلق عادة نداوم على ممارستها، إن الانخراط بشكل يومي في أحد الوسائط يومًا بعد يوم يحفز إحدى الحواس لدينا لاستخدامها أكثر من غيرها، فالوسيط السمعي كالأغاني مثلاً يحفز حاسة السمع أكثر من حاسة النظر إذا تم استخدامها بشكل أكبر، تمامًا مثل الضرير حيث تصبح حاسة السمع متفوقة بشكل ملحوظ، وعلى الصعيد الاجتماعي فالمجتمع يصاغ بحسب الوسيط الأكثر انتشارًا بين أفراده".
يتابع ماكلوهان أن الاكتشافات
التكنولوجية لها علاقة وثيقة بالتغيرات الاجتماعية التي تحدث في المجتمع ليس فقط
التحولات المادية الكبرى بل الأحاسيس الإنسانية أيضًا، إذ يعتقد أن
الوسائل الإلكترونية ساعدت على انكماش الكرة الأرضية من حيث الزمان والمكان وسميت
بالقرية العالمية والتي سميت لاحقًا بـ"عصر القلق" لأن ثورة الاتصال
الإلكتروني أجبرت الأفراد على الانغماس بهذا العالم والالتزام بالمشاركة به.
وبشكل أكثر عمومية يمكن
القول بأن العلاقة التي يفترضها ماكلوهان بين وسائل الإعلام والناس -والتي بلورها
في كتابيه فهم الإعلام ومجرة غوتنبورغ، هي تلك العلاقة التي من خلالها تحدد صورة
أو شكل من وسائل الإعلام ما يمكن أن يحدث للبشرية، فينظر للناس - أو بشكل أكثر دقة
حالة الإنسان الحالية- على أنها من تأثير وسائل الإعلام والتقنية، الأمر الذي لا
يدعونا إلى الاستغراب حين نعلم بأن ماكلوهان واجه العديد من الإنتقادات لتركيزه
على حتمية وسائل الإعلام أو الحتمية التقنية Technological
Determinism،
وإغفاله للدور البشري في هذه العلاقة، في الواقع يبدو أن العلاقة التي افترضها
ماكلوهان هي تلك التي ترى بأن التقنية والإعلام الرقمي هما السبب والمحدد الرئيسي
للتغيرات التي تطرأ على النشاط الإنساني سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو
اقتصادية، وعلاوة على ذلك فهي تفرض بأن الناس غير مدركين لهذه الآثار التي تسببها
وسائل الإعلام في حياتهم بنفس الطريقة التي تكون فيها الأسماك غير مدركة للماء
الذي تسبح فيه، ونتيجة لذلك يرى ماكلوهان أنه نتيجة لانتشار وسائل الإعلام الرقمي
وقيامها بالتأثير على البيئة من حولنا فإنها تسحر توازننا الحسي فتصبح غير مرئية
بالنسبة لنا، الأمر الذي يفسر -من وجهة نظره- لما ينقاد الناس خلف وسائل الإعلام
دون إدراك بأن لها العديد من الآثار والعواقب المختلفة.
كتلير Kittler:
وسائل الإعلام هي التي
تحدد وضعنا هي الجملة الافتتاحية لكتاب كتلير اللاقط الصوتي، الفيلم، الآلة
الكاتبة، والعبارة التي تعيد مجددا وبجرأة مقولة ماكلوهان الوسيلة هي الرسالة، فقد
أكد كتلير أنه وحتى يمكننا فهم حالتنا الحالية فإنه يجب علينا أن نأخذ بعين
الاعتبار الطرق التي يتم بها معالجة المعلومات من قبل وسائل الإعلام وتخزينها
ويشير كيتلير إلى هذه الطرق باسم شبكات الخطاب والتي يعرفها بأنها الشبكات التقنية
والمؤسسات التي تسمح لثقافة معينة بتحديد وتخزين وإنتاج البيانات، فمن خلال سرده
للتطور التاريخي لوسائل الإعلام وعلاقتها بالمجتمع يصف كتلير شبكة الخطاب في خلال
الفترة 1800 بفترة محو الأمية، والتي اعتمدت على الكتابة كوسيلة وحيدة لمعالجة
المعلومات وتخزينها، ويرى بأن جميع الأنواع الأخرى من علامات و أصوات وصور وغيرها
يجب عليها أن تمر من خلال اللغة المكتوبة من أجل تخزينها، وترتبط فكرة شبكة الخطاب
هذه بالحركة الرومانسية في الفنون والأدب والتي كانت ترى بأن اللغة مكتوبة تعد
البداية الأولى لتقنية الترميز، وتم تفسير الأدب والشعر على أنها الأشكال الظاهرية
لأصواتنا الداخلية والتي تهدف إلى إلتقاط المشاعر والأفكار بطريقة
"أصلية"، إلا أنه تم كسر احتكار اللغة المكتوبة بخط اليد للمعلومات بعد
اختراع وسائل الإعلام الأخرى مثل ملتقط الأصوات ومصور الحركات، والتي سمحت بتسجيل
وبث الأصوات والصور، في حين أن اختراع الآلة الكاتبة يعد الوسيلة التي كونت شبكة
الخطاب خلال فترة 1900، ففي هذه الفترة دارت الشبكة حول تقنيات الكتابة ولم تعد
تمثل الصوت الداخلي وإنما مثلت الحاجة إلى الحداثة من خلال الضبط والترشيد وتسجيل
البيانات بطريقة موحدة، أما المرحلة التي تليها هي التحول من القطع المكتوبة إلى
التقنيات الرقمية والتي تؤدي إلى ظهور أشكال متمايزة من المعلومات التي تشكل مرحلة
الألفية.
هذه الروابط بين تقنيات
الإعلام والوعي أو الذات تظهر أهمي وسائل الإعلام الرقمية، وتبرز مقولة كيتلير بن
وسائل الإعلام هي من تحدد وضعنا الحالي، فهي تقوم بذلك من خلال تزويدنا بالأدوات
المادية التي يمكننا من خلالها الكتابة والتواصل أو حتى فهم أنفسنا والعالم من
حولنا، ومن هنا يبدو واضحا موقف كتلير المناهض للدور الإنساني، حيث أنه لا يترك
مجالا أو يضع في عين الاعتبار دورا للإنسان في التطور التاريخي، فمن وجهة نظره
تتكون الحياة الإنسانية كنتيجة نهائية لتطورات شبكة الخطاب: ابتداء بالأصالة من
خلال الحركة الرومانسية مرورا بالطباعة وما صاحبها من حركة الضبط والتوحيد وصولا
إلى تقنيات وسائل الإعلام الرقمي، والتي أدت إلى التمايز والاختلاف، وقد أدى
تجاهله للدور الذي يمكن أن يلعبه الإنسان في هذه التطورات والتغييرات إلى طرح نفس
الأسئلة التي توجيهها إلى ماكلوهان وانتقاد أفكاره بسببها: وهي: ماذا عن الدور
الإنساني؟ وما هو السبب الذي يكمن وراء ظهور وسائل الإعلام؟ وما هو السبب وراء
التغيير الذي يطرأ عليها ويؤدي إلى تطورها؟.
إن إجابة كتلير عن هذه
الأسئلة يمكن تلخيصها في قولة بأن التقنيات هي من تصنع الناس، بمعنى أن وسائل
الإعلام الرقمي هي التي جعلت من الممكن وجودنا بالصورة التي نحن عليها اليوم وهي
التي حددت أشكال المجتمعات التي نعيش فيها حاليا، ولكن بعد ذلك قام الناس بردود
فعل تجاه وسائل الإعلام من حولهم، الأمر الذي أدى إلى ظهور تحولات وتغيرات على هذه
التقنيات، ومن ثم إنتاج وسائل إعلام جديدة، والتي بدورها أدت إلى تشكيل حياة الناس
بطريقة مختلفة وظهور مجتمعات متمايزة وهكذا دواليك، وبالتالي فإن المحرك لتاريخ
الإنسانية من وجهة نظر كتلير هو التقنية بدلا من الإنسان وعلى
الرغم من أن آراء كتلير هذه قدمت لنا معلومات قيمة حول الدور الذي تلعبه تقنيات
وسائل الإعلام الرقمي في تحديد حياة الإنسان والمجتمع والثقافة، إلا أن قبولنا
لأولوية التقنية في التغيير فيه التقليل من دور الإنسان، فمن الممكن القبول بأن
الإنسان لا يعد المسيطر الوحيد في هذه الحياة، ولكن على أقل تقدير لا يمكننا إغفال
قدرته على القيام بردود فعل إنعكاسية وهادفة تجاه وسائل الإعلام الرقمي، الأمر
الذي يظهر أهمية الدور البشري عند حديثنا عن علاقة الإعلام الرقمي بالناس
والمجتمع، والذي اعتبره ويليامز الأساس الذي بنى عليه آراءه حول علاقة وسائل
الإعلام الرقمي وتأثيرها على المجتمعات.
ويليامز Williams:
يؤكد ويليامز بأنه ومهما
كان السبب الأساسي لتطوير وسيلة إعلام ما، فغنه في وقت لاحق ستأتي فئات اجتماعية
أخرى ذات مصالح أو احتياجات مختلفة تؤدي إلى تكييف أو تعديل أو تطوير الاستخدامات
التي تم وضعها لهذه الوسيلة، وبالتالي فإن ويليامز هنا يدحض التبعية الإنسانية
لتقنيات وسائل الإعلام ذات النتائج المحددة، فالعلاقة بين الحاجة والاختراع
والتطوير ومن ثم الاستخدام وأخيرا التأثير ليست علاقة خطية من الممكن التنبؤ بها،
كما أن هذه التقنيات المطورة من الممكن أن يكون لها استخدامات وآثار لم تكن متوقعة
من قبل مطوريها، فكل ما يدور حولنا من تغيير وتطور تقني سريع ناتج عن مصالح
عقلانية من قبل الناس أنفسهم وهي التي تقود هذه التقنيات إلى التطور في اتجاهات
معينة، وهو ما يجب أن نوجه في المقام الأول اهتمامنا إليه -من وجهة نظر ويليامز-
في دراسة علاقة الإعلام الرقمي بالمجتمع والفرد.
ستيغلير Stiegler:
في حين أن كلا من
ماكلوهان وكتلير يرون أن العلاقة بين تقنيات الإعلام والمجتمع عي تلك التي يسيطر
فيها الأول على الثاني ويرى ويليامز بأن الغلبة والسيطرة هي للإنسان، يؤكد ستغلير
بأن العلاقة بن الإعلام والمجتمع هي علاقة مشاركة وتساو في الجدة، وان البشر
والتقنية مرتبطان ارتباطا وثيقا وينتميان إلى بعضهما البعض وأن كليهما يشارك في
تشكيل طبيعة الآخر.
حيث يرى ستغلير بأن هذا التعايش بين البشرية
والتقنية مهم لأنه يتيح لنا أن ندرس تطور كل منهما في نفس الوقت من دون إعطاء
الأولوية بالضرورة لأحدهما على الآخر، وبالتالي فإنها تجنبنا من وجهة النظر
الإنسانية والتي ترى بأن تقنيات وسائل الإعلام هي أدوات في أيدي الأفراد، ووجهة
نظر الأخرى المتمركزة حول حتمية وسائل الإعلام والتي ترى بأن الطبيعة الإنسانية
يتم تحديدها من قبل هذه الوسائل، وقد بنى ستغلير آراءه هذه والمذكورة في كتابه
أدوات التقنية والوقت، مستندا على كتابات لوري غورهان المعنية بطبيعة التطور
البشري، فيرى لوري غورهان بأنه ومن خلال التطور البشري استطاع الإنسان صنع واختراع
الأدوات، وقام بتطوير تقنيات لحفظ المعلومات والتي ينظر إليها لوري غورهان على
أنها نوع جديد للذاكرة بل أنه يعد النوع الثالث من ذاكرة الإنسان والتي يستخدمها
جنبا إلى جنب مع ذاكرته الوراثية (الحمض النووي) والذاكرة الفعلية (الجهاز
العصبي)، ويرى أن ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات تحديدا هذا النوع الثالث
من الذاكرة والتي تعد ذاكرة خارج نطاق جسده لأن تخزينها يتم في أشكال مادية، ويؤكد
لوري غورهان على أن ولادة الجنس البشري هو بمثابة ولادة التقنية.
إلا أن ستغلير انتقد لوري غورهان كونه يعطي
الأولوية للإنسان، وبالتالي فإنه يعطي الأولوية لعلم الأحياء على التقنية، في حين
يؤكد ستغلير على أنه إذا ما أردنا أن نفهم نشأة وتطور كل من البشرية والتقنية فإنه
يجب علينا أن نضع في اعتبارنا كلا من ذاكرة الإنسان الداخلية و الخارجية بصورة
متبادلة ومتزامنة ونسلم بتأثير وتطوير كل منهما للآخر، فردود الفعل الانعكاسية
والقدرة على التفكير الرمزي والتي تعد من وظائف الدماغ الداخلية تم تمثيلها بشكل
خارجي من خلال التقنية، والتي تمكنت بدورها من المحافظة على هذا الانعكاس والقدرة الرمزية،
وقد أطلق ستيغلير على هذه العملية اقتران البشرية مع التقنية الأمر الذي يمكننا من
حفظ واسترجاع المعلومات حتى بعد وفاة الأفراد.
ويؤكد ستغلير على أن
وسائل الإعلام الرقمية تمثل الشكل الظاهري أو المادي من ذاكرة أفكارنا، والتي نقوم
نحن بتحديد طبيعتها ومحتواها، إلا أنه يذكر بأن الاعتماد على مثل هذه الوسائل
التقنية لحفظ المعلومات يؤدي إلى فقدان المعرفة لدى الإنسان وانتقالها إلى هذه
الوسائل، فقداننا للهاتف النقال - على سبيل المثال - يعني فقداننا لكل أرقام
الاتصال الخاصة بمعارفنا والتي لم تعد في ذاكرتنا الداخلية بعد الآن. كما أن
فقداننا لشريحة تخزين المعلومات ينطوي عليها فقدان المعرفة المخزنة فيها، حيث أننا
لن نتمكن من استرداد كل الكم الهائل من المعلومات التي تحويها هذه الشريحة من
ذاكرتنا الداخلية، وبالتالي يؤكد ستغلير أنه يجب أن نفكر في عواقب هذا الانتقال للمعلومات
من الذاكرة البشرية لتقنية ما من أجل مستقبلنا، فعندما يتم تخزين المعلومات في
تقنيات هذه الأجهزة الرقمية والتي يسيطر عليها آخرون - على سبيل المثال الشركات
والحكومات- فقد ينتج عنها أحد الأمرين:
الأمر الأول: أن قد يؤدي إلى تكاسل الناس
والتقليل من مستوى مهارتهم في الحفظ حتى يصبحوا فقط مستهلكين.
الأمر الثاني: أننا نعطي الصناعات المعرفية بين الشركات وحتى بين الدول من أجل السيطرة على هذه التقنيات التي تحوي على المعرفة والمعلومات التي تتحكم بنا.
[1] الإيكولوجيا الثقافية هي دراسة تغير الثقافة الناشىء عن التكيف
مع البيئة الطبيعية، أي أن الظروف الطبيعية تؤثر
على النمو الثقافي.
[2] استخدم مصطلح الپرولتاريا في المراحل التاريخية السابقة لتشير إلى الفئات الاجتماعية الفقيرة والمحرومة في المجتمع. وفي القرن التاسع عشر استخدم هذه الكلمة ماركس وأنگلز للدلالة على طبقة العمال الحديثين الذين لا يملكون وسائل إنتاج. ومن ثم هم مضطرون لبيع قوة عملهم إلى مالكي وسائل الإنتاج ـ الرأسماليين وبذلك يصيرون سلعة شبيهة بأي سلعة أخرى، ويتعرضون كسائر السلع إلى جميع نتائج المزاحمة وتقلبات السوق.
[3] بيل غيتس، المعلوماتية بعد الانترنت، تر: عبد السلام رضوان، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1998، ص 19.



أزال المؤلف هذا التعليق.
ردحذف